السلام عليكم و رحمة الله و بركاته /
الحكمة من نزول القرآن الكريم مفرقا
قال الله تعالى : ( وَ قَالَ الذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) - الفرقان 32-
لقد عرفنا في ما سبق أن القرآن الكريم أنزل على رسول الله عليه الصلاة و السلام مفرقا خلال فترة النبوة كلها ثلاثة و عشرين سنة و لا شك أن لذلك حكما بالغة كثيرة لها شأنها في ترسيخ معاني القرآن الكريم في قلوب الناس و تأثرهم بها و تغيير مجرى حياتهم و أخلاقهم على ضوء ذلك النور المشرق الجديد .
نعرض فيما يلي أهم تلك الحكم و الفوائد بإيجاز إن شاء الله ،،
الحكمة الأولى
تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه و سلم ،،
لما شرع رسول الله عليه الصلاة و السلام بدعوة الناس إلى الإسلام و إلى نبذ الشرك و التخلي عن أخلاق الجاهلية ، لما فعل ذلك لاقى من طواغيت الشرك جفوة و غلظة و إيذاء ما بعده إيذاء مع رغبته الصادقة و جهده الأكيد في إبلاغهم الخير الذي يسعدون به .
و في هذا الحال كان الوحي ينزل عليه صلى الله عليه و سلم بين الفترة و الأخرى يثبته و يحمله على الصبر و ينقل إليه أخبار و قصص إخوانه من النبيين السابقين عليهم الصلاة و السلام ليعرفه أن هذا هو الطريق ، طريق الرسل و الأنبياء من قبله ، أذى و اضطهاد و صبر و عزيمة ، قال تعالى : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )
- الأحقاف 35 –
و قال تعالى : ( وَ كُلاًّ نَّقُصُ عَلَيْكَ مِن أنْباءِ الرُّسُلِ مَا ُنثَبِّتُ بهِ فُؤَادَكَ ) - هود 120 –
و لو نزل القرآن الكريم على النبي جملة واحدة لما وجد هذا الأنس و لا هذا التثبيت الدائم .
الحكمة الثانية
تيسير حفظه و فهمه ،،
لقد أنزل القرآن الكريم على أمة أمية لا عهد لها بالكتابة و القراءة فنزوله مفرقا خير عون لها على حفظه و فهمه و تدبر معانيه ،
و لو أنزل جملة واحدة لكان من العسير عليهم حفظه و فهمه .
الحكمة الثالثة
مسايرة الحوادث و التدرج في التشريع ،،
كان الناس قبل الإسلام يعيشون حياة الفوضى ، فلا ضوابط و لا معايير سليمة يسيرون عليها في تعاملهم مع بعضهم بل هي العادات و التقاليد و محاكاة الآباء و الأجداد بلا رشد و لا بصيرة .
و أراد الله عز و جل أن يبني هذه الأمة بناءً صالحا وفق السنن الإلهية لعمارة هذا الكون ، و ليس من السهل على الناس أن يسلموا قيادهم طفرة لهذا الدين و يتخلوا عن كل ما ورثوه من تقاليد الآباء و الأجداد .
لذلك فقد أخذهم القرآن الكريم بالحكمة و التدرج في الأحكام ، فكان أول ما عالجه القرآن الكريم موضوع العقيدة الصحيحة عن الله و اليوم الآخر و عن الحياة و الكون و الإنسان و دوره و مهمته و بذلك استأصل القرآن الكريم الشرك من النفوس و غرس فيها الإيمان بالله و اليوم و الآخر و الملائكة و الكتب و المرسلين ، ثم تدرج التشريع بالأمة و عند كل حادثة ينزل حكمها ليكون أوقع في النفوس و أبقى في الأذهان و ليلمس الناس صلاحية هذا التشريع و عدالته بشكل عملي واقعي .
الحكمة الرابعة
الإعجاز و إقامة الحجة على الناس ،،
لقد استمر نزول القرآن الكريم على رسول الله عليه الصلاة و السلام ثلاثة و عشرين عاما تتنزل الآيات عقب الآيات و مع ذلك يتلوه الناس من يوم نزوله إلى الآن فيجدونه على غاية الإحكام و الإتقان و ترابط المعاني و رصانة الأسلوب مما لا يستطيع بشر أن يأتي بمثله أو بمثل سورة منه و قد تحدى القرآن الكريم العرب بذلك فعجزوا و ما زالوا عاجزين ،
و لو أن هذا القرآن كلام بشر و استغرق جمعه كل هذا الزمن و بالشكل الذي نزل فيه و جمع لكان فيه من الركاكة و التفكك و عدم التنسيق الشيء الكثير ، و صدق الله العظيم القائل : ( وَ لََوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاََفًا كَثِيرًا ) - النساء 82 -
و الله أعلم .